فصل: قال ابن جزي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن جزي:

سورة التغابن:
{هُو الذي خلقكُمْ فمِنكُمْ كافِرٌ ومِنكُمْ مُّؤْمِنٌ}
في تأويل الآية وجهان: أحدهما الذي خلقكم فكان يجب على كل واحد منكم الإيمان به، لكن منكم من كفر ومنكم من آمن، فالكفر والإيمان على هذا هو من اكتساب العبد. والآخر: أن المعنى هو الذي خلقكم على صنفين: فمنكم من خلقه مؤمنا ومنكم من خلقه كافرا، فالإيمان والكفر على هذا هو ما قضى الله على كل واحد، والأول أظهر، لأنه عطفه على خلقكم بالفاء يقتضي أنّ الكفر والإيمان واقعان بعد الخلقة لا في أصل الخلقة.
{خلق السماوات والأرض بالحق} ذكر معناه في مواضع {وصوّركُمْ فأحْسن صُوركُمْ} تعديد نعمة في حُسنِ خِلقة بني آدم؛ لأنهم أحسن صورة من جميع أنواع الحيوان وإن وجد بعض الناس قبيح المنظر، فلا يخرجه ذلك عن حسن الصورة الإنسانية، وإنما هو قبيح بالنظر إلى من هو أحسن منه من الناس. وقيل؛ يعني العقل والإدراك الذي خصّ به الإنسان. والأول أرجح لأن الصورة إنما تطلق على الشكل.
{ألمْ يأْتِكُمْ} خطاب لقريش وسائر الكفار {فقالوا أبشرٌ يهْدُوننا} معناه أنهم استبعدوا أن يرسل الله بشرا أو تكبروا عن اتباع بشر، والبشر يقع على الواحد والجماعة {زعم الذين كفروا أن لّن يُبْعثُواْ} قال عبد الله بن عمر: زعم كناية عن كذب.
{يوْم يجْمعُكُمْ} العامل في يوم لتنبؤن أو محذوف تقديره اذكر، ويحتمل أن يكون مبتدأ وخبره {ذلِك يوْمُ التغابن} يعني، يوم القيامة. والتغابن مستعار من تغابن الناس في التجارة، وذلك إذا فاز السعداء بالجنة، فكأنهم غبنوا الأشقياء في منازلهم التي كانوا ينزلون منها لو كانوا سعداء، فالتغابن على هذا بمعنى الغبن، وليس المتعارف في صيغة تفاعل من كونه بين اثنين، كقولك تضارب وتقاتل إنما هي فعل واحد كقولك: تواضع، قال ابن عطية والزمخشري: يعني نزول السعداء منازل الأشقياء ونزول الأشقياء منازل السعداء، والتغابن على هذا بين اثنين، قال: وفيه تهكم بالأشقياء، لأن نزولهم في جهنم ليس في الحقيقة بغبن للسعداء.
{مآ أصاب مِن مُّصِيبةٍ إِلاّ بِإِذْنِ الله} يحتمل أن يريد بالمصيبة الرزايا، وخصها بالذكر لأنها أهم على الناس. أو يريد جميع الحوادث من خير أو شر، وبإذن الله عبارة عن قضائه وإرادته تعالى: {ومن يُؤْمِن بالله يهْدِ قلْبهُ} قيل: معناه من يؤمن بأن كل شيء بإذن الله يهد الله قلبه للتسليم والرضا بقضاء الله، وهذا أحسن إلا أن العموم أحسن منه.
{يا أيها الذين إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم}
سببها أن قوما أسلموا وأرادوا الهجرة فثبطهم أزواجهم وأولادهم عن الهجرة فحذرهم الله من طاعتهم في ذلك وقيل نزلت في عوف بن مالك الأشجعي وذلك أنه أراد الجهاد فاجتمع أهله وأولاده فشكوا من فراقه فرق لهم ورجع ثم إنه ندم وهم بمعاقبتهم فنزلت الآية محذرة من فتنة الأولاد ثم صرف تعالى عن معاقبتهم بقوله: {وإن تعفوا وتصفحوا} الآية ولفظ الآية مع ذلك على عمومه في التحذير ممن يكون للإنسان عدوا من أهله وأولاده سواء كانت عداوتهم بسبب الدين أو الدنيا.
التغابن (15) {إنما أموالكم وأولادكم}
{والله عنده أجر عظيم} ترغيب في الأخرة وتزهيد في الأموال والأولاد التي فتن الناس بها.
التغابن (16) {فاتقوا الله ما استطعتم} قيل: إن هذا ناسخ لقوله: {اتقوا الله حق تقاته} وروى أنه لما نزل {حق تقاته} شق ذلك على الناس حتى نزل {ما استطعتم} وقيل لا نسخ بينهما لأن {حق تقاته} معناه فيما استطعتم إذ لا يمكن أن يفعل أحد إلا ما يستطيع وهذه الآية على هذا مبينة لتلك وتحرز بالاستطاعة من الاكراه والنسيان ومالا يؤاخذ به العبد وإعراب ما في قوله: {ما استطعتم} ظرفيه {خيرا لأنفسكم} منصوب بإضمار فعل لا يظهر عند سيبويه وقيل هو مفعول بـ: {أنفقوا} لأن الخير بمعنى المال وقيل هو نعت لمصدر محذوف تقديره أنفقوا إنفاقا {خيرا لأنفسكم ومن يوق شح نفسه} ذكر في الحشر. التغابن (17). {إن تقرضوا} ذكر في البقرة {والله شكور حكيم} ذكر في اللغات. اهـ.

.قال البيضاوي:

سورة التغابن:
مختلف فيها.
وآيها ثماني عشرة آية.
بِسْمِ الله الرّحْمنِ الرّحِيمِ
{يُسبّحُ لله ما في السموات وما فِي الأرض} بدلالتها على كماله واستغنائه. {لهُ الملك ولهُ الحمد} قدم الظرفين للدلالة على اختصاص الأمرين به من حيث الحقيقة. {وهُو على كُلّ شيء قدِيرٌ} لأن نسبة ذاته المقتضية للقدرة إلى الكل على سواء ثم شرع فيما ادعاه فقال: {هُو الذي خلقكُمْ فمِنكُمْ كافِرٌ} مقدر كفره موجه إليه ما يحمله عليه. {ومِنكُمْ مُّؤْمِنٌ} مقدر إيمانه موفق لما يدعوه إليه. {والله بِما تعْملُون بصِيرٌ} فيعاملكم بما يناسب أعمالكم.
{خلق السموات والأرض بالحق} بالحكمة البالغة. {وصوّركُمْ فأحْسن صُوركُمْ} فصوركم من جملة ما خلق فيهما بأحسن صورة، حيث زينكم بصفوة أوصاف الكائنات، وخصكم بخلاصة خصائص المبدعات، وجعلكم أنموذج جميع المخلوقات. {وإِليْهِ المصير} فأحسنوا سرائركم حتى لا يمسخ بالعذاب ظواهركم.
{يعْلمُ ما في السموات والأرض ويعْلمُ ما تُسِرُّون وما تُعْلِنُون والله علِيمُ بِذاتِ الصدور} فلا يخفى عليه ما يصح أن يعلم كليا كان أو جزئيا، لأن نسبة المقتضى لعلمه إلى الكل واحدة، وتقديم تقرير القدرة على العلم لأن دلالة المخلوقات على قدرته أولا وبالذات وعلى علمه بما فيها من الإتقان والاختصاص ببعض الأنحاء.
{ألمْ يأْتِكُمْ} يا أيها الكفار. {نبأْ الذين كفرُواْ مِنْ قبْلُ} كقوم نوح وهود وصالح عليهم السلام. {فذاقُواْ وبال أمْرِهِمْ} ضرر كفرهم في الدنيا، وأصله الثقل ومنه الوبيل لطعام يثقل على المعدة، والوابل المطر الثقيل القطار. {ولهُمْ عذابٌ ألِيمٌ} في الآخرة.
{ذلك} أي المذكور من الوبال والعذاب. {بِأنّهُ} بسبب أن الشأن. {كانت تّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بالبينات} بالمعجزات. {فقالواْ أبشرٌ يهْدُوننا} أنكروا وتعجبوا من أن يكون الرسل بشرا والبشر يطلق للواحد والجمع. {فكفرُواْ} بالرسل {وتولّواْ} عن التدبر في البينات. {واستغنى الله} عن كل شيء فضلا عن طاعتهم. {والله غنِىٌّ} عن عبادتهم وغيرها. {حمِيدٌ} يدل على حمده كل مخلوق.
{زعم الذين كفرُواْ أن لّن يُبْعثُواْ} الزعم ادعاء العلم ولذلك يتعدى إلى مفعولين وقد قام مقامهما أن بما في حيزه. {قُلْ بلى} أي بلى تبعثون. {وربّى لتُبْعثُنّ} قسم أكد به الجواب. {ثُمّ لتُنبّؤُنّ بِما عمِلْتُمْ} بالمحاسبة والمجازاة. {وذلِك على الله يسِيرٌ} لقبول المادة وحصول القدرة التامة.
{فآمِنُوا بِالله ورسُولِهِ} محمد عليه الصلاة والسلام. {والنور الذي أنزلْنا} يعني القرآن فيه بإعجازه ظاهر بنفسه مظهر لغيره مما فيه شرحه وبيانه. {والله بِما تعْملُون خبِيرٌ} فمجاز عليه.
{يوْم يجْمعُكُمْ} ظرف {لتُنبّؤُنّ} أو مقدر باذكر، وقرأ يعقوب {نجمعكم}.
{لِيوْمِ الجمع} لأجل ما فيه من الحساب والجزاء والجمع جمع الملائكة والثقلين. {ذلِك يوْمُ التغابن} يغبن فيه بعضهم بعضا لنزول السعداء منازل الأشقياء لو كانوا سعداء وبالعكس، مستعار من تغابن التجار واللام فيه للدلالة على أن التغابن الحقيقي هو التغابن في أمور الآخرة لعظمها ودوامها. {ومن يُؤْمِن بالله ويعْملْ صالحا} أي عملا صالحا. {يُكفّرْ عنْهُ سيئاته ويُدْخِلْهُ جنات تجْرِى مِن تحْتِها الأنهار خالدين فِيها أبدا} وقرأ نافع وابن عامر بالنون فيهما. {ذلك الفوز العظيم} الإِشارة إلى مجموع الأمرين، ولذلك جعله الفوز العظيم لأنه جامع للمصالح من دفع المضار وجلب المنافع.
{والذين كفرُواْ وكذّبُواْ بآياتنا أُوْلئِك أصحاب النار خالدين فِيها وبِئْس المصير} كأنها والآية المتقدمة بيان ل {التغابن} وتفصيل له.
{ما أصاب مِن مُّصِيبةٍ إِلاّ بِإِذْنِ الله} إلا بتقديره وإرادته. {ومن يُؤْمِن بالله يهْدِ قلْبهُ} للثبات والاسترجاع عند حلولها، وقرئ {يهْدِ قلْبهُ} بالرفع على إقامته مقام الفاعل وبالنصب على طريقة {سفِه نفْسهُ} ويهدأ بالهمزة أي يسكن. {والله بِكُلّ شيْء علِيمٌ} حتى القلوب وأحوالها.
{وأطِيعُواْ الله وأطِيعُواْ الرسول فإِن تولّيْتُمْ فإِنّما على رسُولِنا البلاغ المبين} أي فإن توليتم فلا بأس عليه إذ وظيفته التبليغ وقد بلغ.
{الله لا إله إِلاّ هُو وعلى الله فلْيتوكّلِ المؤمنون} لأن إيمانهم بأن الكل منه يقتضي ذلك.
{يا أيها الذين ءامنُواْ إِنّ مِنْ أزواجكم وأولادكم عدُوّا لّكُمْ} يشغلكم عن طاعة الله أو يخاصمكم في أمر الدين أو الدنيا. {فاحذروهم} ولا تأمنوا غوائلهم. {وأن تعْفُواْ} عن ذنوبهم بترك المعاقبة. {وتصْفحُواْ} بالإِعراض وترك التثريب عليها. {وتغْفِرُواْ} بإخفائها وتمهيد معذرتهم فيها. {فإِنّ الله غفُورٌ رّحِيمٌ} يعاملكم بمثل ما عملتم ويتفضل عليكم.
{إِنّما أموالكم وأولادكم فِتْنةٌ} اختبار لكم. {والله عِنْدهُ أجْرٌ عظِيمٌ} لمن آثر محبة الله وطاعته على محبة الأموال والأولاد والسعي لهم.
{فاتقوا الله ما استطعتم} أي ابذلوا في تقواه جهدكم وطاقتكم. {واسمعوا} مواعظه. {وأطِيعُواْ} أوامره. {وأنْفِقُواْ} في وجوه الخير خالصا لوجهه. {خيْرا لأنْفُسِكُمْ} أي افعلوا ما هو خير لها، وهو تأكيد للحث على امتثال هذه الأوامر، ويجوز أن يكون صفة مصدر محذوف تقديره: انفاقا خيرا أو خبرا لكان مقدرا جوابا للأوامر. {ومن يُوق شُحّ نفْسِهِ فأُوْلئِك هُمُ المفلحون} سبق تفسيره.
{إِن تُقْرِضُواْ الله} تصرفوا المال فيما أمره. {قرْضا حسنا} مقرونا بإخلاص وطيب قلب. {يضاعفه لكُمْ}. يجعل لكم بالواحد عشرا إلى سبعمائة وأكثر، وقرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب {يضعفه لكم}. {ويغْفِرْ لكُمْ} ببركة الإنفاق. {والله شكُورٌ} يعطي الجزيل بالقليل. {حلِيمٌ} لا يعاجل بالعقوبة.
{عالم الغيب والشهادة} لا يخفي عليه شيء. {العزيز الحكيم} تام القدرة والعلم.
عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة التغابن دفع عنه موت الفجأة» والله أعلم. اهـ.

.قال أبو حيان:

سورة التغابن:
{يُسبِّحُ لله ما فِي السّماواتِ وما فِي الْأرْضِ لهُ الْمُلْكُ ولهُ الْحمْدُ}
ومناسبة هذه السورة لما قبلها: أن ما قبلها مشتمل على حال المنافقين، وفي آخرها خطاب المؤمنين، فأتبعه بما يناسبه من قوله: {هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن}، هذا تقسيم في الإيمان والكفر بالنظر إلى الاكتساب عند جماعة من المتأولين لقوله: كل مولود يولد على الفطرة، وقوله تعالى: {فطرة الله التي فطر الناس عليها} وقيل: ذانك في أصل الخلقة، بدليل ما في حديث النطفة من قول الملك: أشقيّ أم سعيد؟ والغلام الذي قتله الخضر عليه السلام أنه طبع يوم طبع كافرا.
وما روى ابن مسعود أنه عليه الصلاة والسلام قال: «خلق الله فرعون في البطن كافرا» وحكى يحيى بن زكريا: في البطن مؤمنا.
وعن عطاء بن أبي رباح: {فمنكم كافر} بالله، {مؤمن} بالكواكب؛ ومؤمن بالله وكافر بالكوكب.
وقدّم الكافر لكثرته.
ألا ترى إلى قوله تعالى: {وقليل من عبادي الشكور} وحين ذكر الصالحين قال: {وقليل ما هم} وقال الزمخشري: فمنكم آت بالكفر وفاعل له، ومنكم آت بالإيمان وفاعل له، كقوله تعالى: {وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون} والدليل عليه قوله تعالى: {والله بما تعملون بصير}: أي عالم بكفركم وإيمانكم اللذين هما من قبلكم، والمعنى: الذي تفضل عليكم بأصل النعم الذي هو الخلق والإيجاد عن العدم، فكان يجب أن تنظروا النظر الصحيح، وتكونوا بأجمعكم عبادا شاكرين. انتهى، وهو على طريقة الاعتزال.
وقال أيضا: وقيل: {هو الذي خلقكم فمنكم كافر} بالخلق: هم الدهرية، {ومنكم مؤمن} به.
وعن الحسن: في الكلام حذف دل عليه تقديره: ومنكم فاسق، وكأنه من كذب المعتزلة على الحسن.
وتقدم الجار والمجرور في قوله: {له الملك وله الحمد}، قال الزمخشري: ليدل بتقدمهما على معنى اختصاص الملك والحمد بالله عز وجل، وذلك لأن الملك على الحقيقة له، لأنه مبدئ كل شيء ومبدعه، والقائم به المهيمن عليه؛ وكذلك الحمد، لأن أصول النعم وفروعها منه.
وأما ملك غيره فتسليط منه، وحمده اعتداد بأن نعمة الله جرت على يده.
وقرأ الجمهور: {صوركم} بضم الصاد؛ وزيد بن عليّ وأبو رزين: بكسرها، والقياس الضم، وهذا تعديد للنعمة في حسن الخلقة، لأن أعضاء بني آدم متصرّفة بجميع ما تتصرّف فيه أعضاء الحيوان، وبزيادة كثيرة فضل بها.
ثم هو مفضل بحسن الوجه وجمال الجوارح، كما قال تعالى: {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم} وقيل: النعمة هنا إنما هي صورة الإنسان من حيث هو إنسان مدرك عاقل، فهذا هو الذي حسن له حتى لحقته كمالات كثيرة، وتكاد العرب لا تعرف الصورة إلا الشكل، لا المعنى القائم بالصورة.
ونبه تعالى بعلمه بما في السموات والأرض، ثم بعلمه بما يسر العباد وما يعلنونه، ثم بعلمه بما أكنته الصدور على أنه تعالى لا يغيب عن علمه شيء، لا من الكليات ولا من الجزئيات، فابتدأ بالعلم الشامل للعالم كله، ثم بخاص العباد من سرّهم وإعلانهم، ثم ما خص منه، وهو ما تنطوي عليه صدورهم من خفي الأشياء وكامنها، وهذا كله في معنى الوعيد، إذ هو تعالى المجازي على جميع ذلك بالثواب والعقاب.
وقرأ الجمهور: {ما تسرون وما تعلنون} بتاء الخطاب؛ وعبيد عن أبي عمرو، وأبان عن عاصم: بالياء.
{ألم يأتكم}: الخطاب لقريش، ذكروا بما حل بالكفار قبلهم عاد وثمود وقوم إبراهيم وغيرهم ممن صرح بذكرهم في سورة براءة وغيرها، وقد سمعت قريش أخبارهم، {فذاقوا وبال أمرِهم}: أي مكروههم وما يسوؤهم منه.
{ذلك}: أي الوبال، {بأنه}: أي بأن الشأن والحديث استبعدوا أن يبعث الله تعالى من البشر رسولا، كما استبعدت قريش، فقالوا على سبيل الاستغراب: {أبشر يهدوننا}، وذلك أنهم يقولون: نحن متساوون في البشرية، فأنى يكون لهؤلاء تمييز علينا بحيث يصيرون هداة لنا؟ وارتفع {أبشر} عند الجوفي وابن عطية على الابتداء، والخبر {يهدوننا}، والأحسن أن يكون مرفوعا على الفاعلية، لأن همزة الاستفهام تطلب الفعل، فالمسألة من باب الاشتغال.
{فكفروا}: العطف بالفاء يدل على تعقب كفرهم مجيء الرسل بالبينات، أي لم ينظروا في تلك البينات ولا تأمّلوها، بل عقبوا مجيئها بالكفر، {واستغنى الله}: استفعل بمعنى الفعل المجرد، وغناه تعالى أزلي، فالمعنى: أنه ظهر تعالى غناه عنهم إذ أهلكهم، وليست استفعل هنا للطلب.
وقال الزمخشري: معناه: وظهر استغناء الله حيث لم يلجئهم إلى الإيمان، ولم يضطرهم إليه مع قدرته على ذلك.
انتهى، وفيه دسيسة الاعتزال.
والزعم: تقدم تفسيره، والذين كفروا: أهل مكة، وبلى: إثبات لما بعد حرف النفي، {وذلك على الله يسير}: أي لا يصرفه عنه صارف.
{فآمنوا بالله ورسوله}: وهو محمد صلى الله عليه وسلم، {والنور الذي أنزلنا}: هو القرآن، وانتصب {يوم يجمعكم} بقوله: {لتنبؤن}، أو بخبير، بما فيه من معنى الوعيد والجزاء، أو باذكر مضمرة، قاله الزمخشري؛ والأول عن النحاس، والثاني عن الحوفي.
وقرأ الجمهور: {يجمعكم} بالياء وضم العين؛ وروي عنه سكونها وإشمامها الضم؛ وسلام ويعقوب وزيد بن علي والشعبي: بالنون.
{ليوم الجمع}: يجمع فيه الأولون والآخرون، وذلك أن كل واحد يبعث طامعا في الخلاص ورفع المنزلة.
{ذلك يوم التغابن}: مستعار من تغابن القوم في التجارة، وهو أن يغبن بعضهم بعضا، لأن السعداء نزلوا منازل الأشقياء لو كانوا سعداء، ونزل الأشقياء منازل السعداء لو كانوا أشقياء، وفي الحديث: «ما من عبد يدخل الجنة إلا أرى مقعده من النار لو أساء ليزداد شكرا، وما من عبد يدخل النار إلا أرى مقعده من الجنة لو أحسن ليزداد حسرة»، وذلك معنى يوم التغابن.
وعن مجاهد وغيره: إذا وقع الجزاء، غبن المؤمنون الكافرين لأنهم يجوزون الجنة وتحصل الكفار في النار.
وقرأ الأعرج وشيبة وأبو جعفر وطلحة ونافع وابن عامر والمفضل عن عاصم وزيد بن عليّ والحسن بخلاف عنه: {نكفر} و{ندخله} بالنون فيهما؛ والأعمش وعيسى والحسن وباقي السبعة: بالياء فيهما.
{ما أصاب مِنْ مُصِيبةٍ إِلّا بِإِذْنِ الله ومنْ يُؤْمِنْ بِالله يهْدِ قلْبهُ والله بِكُلِّ شيْءٍ علِيمٌ (11)}
الظاهر إطلاق المصيبة على الرزية وما يسوء العبد، أي في نفس أو مال أو ولد أو قول أو فعل، وخصت بالذكر، وإن كان جميع الحوادث لا تصيب إلا بإذن الله.
وقيل: ويحتمل أن يريد بالمصيبة الحادثة من خير وشر، إذ الحكمة في كونها بأذن الله.
و{ما} نافية، ومفعول {أصاب} محذوف، أي ما أصاب أحدا، والفاعل {من مصيبة} ، و{من} زائدة، ولم تلحق التاء {أصاب} ، وإن كان الفاعل مؤنثا، وهو فصيح، والتأنيث لقوله تعالى: {ما تسبق من أمة أجلها} وقوله: {وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله} أي بإرادته وعلمه وتمكينه.
{ومن يؤمن بالله}: أي يصدق بوجوده ويعلم أن كل حادثة بقضائه وقدره، {يهد قلبه} على طريق الخير والهداية.
وقرأ الجمهور: {يهد} بالياء، مضارعا لهدى، مجزوما على جواب الشرط.
وقرأ ابن جبير وطلحة وابن هرمز والأزرق عن حمزة: بالنون؛ والسلمي والضحاك وأبو جعفر: {يهد} مبنيا للمفعول، {قلبه} : رفع؛ وعكرمة وعمرو بن دينار ومالك بن دينار: {يهدأ} بهمزة ساكنة، قلبه بالرفع: يطمئن قلبه ويسكن بإيمانه ولا يكون فيه اضطراب.
وعمرو بن فايد: {يهدا} بألف بدلا من الهمزة الساكنة؛ وعكرمة ومالك بن دينار أيضا: {يهد} بحذف الألف بعد إبدالها من الهمزة الساكنة وإبدال الهمزة ألفا في مثل يهدأ ويقرأ، ليس بقياس خلافا لمن أجاز ذلك قياسا، وبنى عليه جواز حذف تلك الألف للجازم، وخرج عليه قول زهير بن أبي سلمى:
جزى متى يظلم يعاقب بظلمه ** سريعا وإن لا يبد بالظلم يظلم

أصله: يبدأ، ثم أبدل من الهمزة ألفا، ثم حذفها للجازم تشبيها بألف يخشى إذا دخل الجازم.
ولما قال تعالى: {ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله}، ثم أمر بطاعة الله وطاعة رسوله، وحذر مما يلحق الرجل من امرأته وولده بسبب ما يصدر من بعضهم من العداوة، ولا أعدى على الرجل من زوجته وولده إذا كانا عدوين، وذلك في الدنيا والآخرة.
أما في الدنيا فبإذهاب ماله وعرضه، وأما في الآخرة فبما يسعى في اكتسابه من الحرام لهما، وبما يكسبانه منه بسبب جاهه.
وكم من امرأة قتلت زوجها وجذمت وأفسدت عقله، وكم من ولد قتل أباه.
وفي التواريخ وفيما شاهدناه من ذلك كثير.
وعن عطاء بن أبي رباح: أن عوف بن مالك الأشجعي أراد الغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم، فاجتمع أهله وولده، فثبطوه وشكوا إليه فراقة، فرق ولم يغز؛ إنه ندم بمعاقبتهم، فنزلت: {يا أيها الذين آمنوا} الآية.
وقيل: آمن قوم بالله، وثبطهم أزواجهم وأولادهم عن الهجرة، ولم يهاجروا إلا بعد مدة، فوجدوا غيرهم قد تفقه في الدين، فندموا وأسفوا وهموا بمعاقبة أزواجهم وأولادهم، فنزلت.
وقيل: قالوا لهم: أين تذهبون وتدعون بلدكم وعشيرتكم وأموالكم؟ فغضبوا عليهم وقالوا: لئن جمعنا الله في دار الهجرة لم نصبكم بخير.
فلما هاجروا، منعوهم الخير، فحبوا أن يعفوا عنهم ويردوا إليهم البر والصلة.
ومن في {من أزواجكم وأولادكم} للتبعيض، وقد توجد زوجة تسر زوجها وتعينه على مقاصده في دينه ودنياه، وكذلك الولد.
وقال الشعب العبسي يمدح ولده رباطا:
إذا كان أولاد الرجال حزازة ** فأنت الحلال الحلو والبارد العذب

لنا جانب منه دميث وجانب ** إذا رامه الأعداء مركبه صعب

وتأخذه عند المكارم هزة ** كما اهتز تحت البارح الغصن الرطب

وقال قرمان بن الأعرف في ابنه منازل، وكان عاقا له، قصيدة فيها بعض طول منها:
وربيته حتى إذا ما تركته ** أخا القوم واستغنى عن المسح شاربه

فلما رآني أحسب الشخص أشخصا ** بعيدا وذا الشخص البعيد أقاربه

تعمد حقي ظالما ولوى يدي ** لوى يده الله الذي هو غالبه

{إنما أموالكم وأولادكم فتنة}: أي بلاء ومحنة، لأنهم يوقعون في الإثم والعقوبة، ولا بلاء أعظم منهما.
وفي باب العداوة جاء بمن التي تقتضي التبعيض، وفي الفتنة حكم بها على الأموال والأولاد على بعضها، وذلك لغلبة الفتنة بهما، وكفى بالمال فتنة قصة ثعلبة بن حاطب، أحد من نزل فيه، ومنهم من عاهد الله: {لئن آتانا من فضله} الآيات.
وقد شاهدنا من ذكر أنه يشغله الكسب والتجارة في أمواله حتى يصلي كثيرا من الصلوات الخمس فائتة.
وقد شاهدنا من كان موصوفا عند الناس بالديانة والورع، فحين لاح له منصب وتولاه، استناب من يلوذ به من أولاده وأقاربه، وإن كان بعض من استنابه صغير السن قليل العلم سيئ الطريقة، ونعوذ بالله من الفتن.
وقدمت الأموال على الأولاد لأنها أعظم فتنة، {كلا إن الإنسان ليطغى أن رءاه استغنى} شغلتنا أموالنا وأهلونا.
{والله عنده أجر عظيم}: تزهيد في الدنيا وترغيب في الآخرة.
والأجر العظيم: الجنة.
{فاتقوا الله ما استطعتم}، قال أبو العالية: جهدكم.
وقال مجاهد: هو أن يطاع فلا يعصى، {واسمعوا} ما توعظون به، {وأطيعوا} فيما أمرتم به ونهيتم عنه، {وأنفقوا} فيما وجب عليكم.
و{خيرا} منصوب بفعل محذوف تقديره: وأتوا خيرا، أو على إضمار يكن فيكون خبرا، أو على أنه نعت لمصدر محذوف، أي إنفاقا خيرا، أو على أنه حال، أو على أنه مفعول بـ: : وأنفقوا خيرا، أي مالا، أقوال، الأول عن سيبويه.
ولما أمر بالإنفاق، أكده بقوله: {إن تقرضوا الله قرضا حسنا}، ورتب عليه تضعيف القرض وغفران الذنوب.
وفي لفظ القرض تلطف في الاستدعاء، وفي لفظ المضاعفة تأكيد للبذل لوجه الله تعالى.
ثم اتبع جوابي الشرط بوصفين: أحدهما عائد إلى المضاعفة، إذ شكره تعالى مقابل للمضاعفة، وحلمه مقابل للغفران.
قيل: وهذا الحض هو في الزكاة المفروضة، وقيل، هو في المندوب إليه.
وتقدم الخلاف في القراءة في {يوق} وفي {شح} وفي {يضاعفه}. اهـ.